فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قوله: {لا يقومون} حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازًا على تحسّن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب.
فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان، أي إلاّ قيامًا كقيام الذي يتخبّطه الشيطان، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعًا لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قويًا سريع الحركة، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئًا.
فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا}، وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة. اهـ.

.قال الفخر:

التخبط معناه الضرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير للأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الإدهاش، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة، ويقال: به خبطة من جنون، والمس الجنون، يقال: مس الرجل فهو ممسوس وبه مس، وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، ثم سمي الجنون مسًا، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

التخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضربًا شديدًا فاضطرب له، أي تحرّك تحرّكًا شديدًا، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق.
ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّيًا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار، فعِوضًا عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا: اضطَرّه إلى كذا.
فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطًا، أي متحرّكًا على غير اتّساق.
والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع.
فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها، وقد عُرِف ذلك عندهم.
قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلًا كاملًا:
وتُصبح عن غِب السري وكأنّها ** ألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ

.قال الفخر:

قال الجبائي: الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل، لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني: الشيطان إما أن يقال: إنه كثيف الجسم، أو يقال: إنه من الأجسام اللطيفة، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفًا ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها، وذلك جهالة عظيمة، ولأنه لو كان جسمًا كثيفًا فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان، وأما إن كان جسمًا لطيفًا كالهواء، فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة، فيمتنع أن يكون قادرًا على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث: لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان، ولم لا يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟ وكل ذلك ظاهر الفساد، واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول: ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.
والجواب عنه: أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني: أن هذه الآية وهي قوله: {يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه.
والجواب عنه: أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع، وهو كقول أيوب عليه السلام {أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع، وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترئ فيصرع عند تلك الوسوسة، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين، وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب، وذكر القفال فيه وجه آخر، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضًا من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان، كما في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشياطين} [الصافات: 65]. اهـ.

.قال البقاعي:

قال البيضاوي تبعًا للزمخشري: التخبط والمس وارد على ما يزعمون أي العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله- انتهى.
وظاهره إنكار ذلك وليس بمنكر بل هو الحق الذي لا مرية فيه، قال المهدوي في تفسيره: وهذا دليل على من أنكر أن الصرع من جهة الجن وزعم أنه فعل الطبائع.
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحكي مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء، فلا وجه لنفيها؛ وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية؛ ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الناس ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات- انتهى.
وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن «الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وورد «أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب» ونحو ذلك؛ وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك، فأما مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان يلقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع، فكثير جدًا لا يحصى مشاهدوه- إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين؛ وها أنا أذكر لك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم من كتب الله القديمة ما فيه مقنع لمن تدبره- والله سبحانه وتعالى الموفق: روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند أغدائنا وعشائنا فيخبث علينا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا فثعّ ثعة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود» فثعّ ثعة بمثلثة ومهملة أي قاء وللدارمي أيضًا وعبد بن حميد بسند صحيح حسن أيضًا عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا، فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال: اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثلاثًا! ثم دفعه إليها» وأخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك في حرة واقم، قال جابر: «فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما فقالت: يا رسول الله! اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد ذلك! فقال: خذوا منها واحدًا وردوا عليها الآخر».
وروى البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله تعالى عنه.
وفي الإنجيل من ذلك كثير جدًا، قال في إنجيل متى ولوقا ومُرقُس يزيد أحدهم على الآخر وقد جمعت بين ألفاظهم: وجاء يعني عيسى عليه الصلاة والسلام إلى عبر البحر إلى كورة الجرجسيين، وقال في إنجيل لوقا: التي هي مقابل عبر الجليل، فلما خرج من السفينة استقبله مجنون، قال لوقا: من المدينة معه شياطين، وقال متى مجنونان جائيان من المقابر رديئان جدًا حتى أنه لم يقدر أحد أن يجتاز من تلك الطريق فصاحا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع! جئت لتعذبنا قبل الزمان؛ قال لوقا: وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس، وكان يقطع الرباط ويقوده الشيطان إلى البراري، فسأله يسوع: ما اسمك؟ فقال: لاجاون، لأنه دخل فيه شياطين كثيرة؛ وقال مرقس: فقال له: اخرج أيها الروح النجس! اخرج من الإنسان، ثم قال له: ما اسمك؟ فقال: لاجاون اسمي لأنا كثير، وطلب إليه أن يرسلهم خارجًا من الكورة؛ وكان هناك نحو الجبل قطيع خنازير كثيرة يرعى بعيدًا منهم، فطلب إليه الشياطين قائلين: إن كنت تخرجنا فأرسلنا إلى قطيع الخنازير فقال لهم: اذهبوا، وقال مرقس: فأذن لهم يسوع، فللوقت خرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير وقال: متى: فلما خرجوا ومضوا في الخنازير وإذا بقطيع خنازير قد وثب على جرف وتواقع في البحر ومات جميعه في المياه، وأن الرعاة هربوا ومضوا إلى المدينة وأخبروهم بكل شيء وبالمجنونين، فخرج كل من في المدينة للقاء يسوع؛ قال مرقس: وأبصروا ذلك المجنون جالسًا لابسًا عفيفًا فخافوا، فلما أبصروه- يعني عيسى عليه الصلاة والسلام- طلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم؛ قال لوقا: لأنهم خافوا عظيمًا، وقال مرقس: فلما صعد السفينة طلب إليه المجنون أن يكون معه فلم يدعه يسوع لكن قال له امض إلى بيتك وعرفهم صنع الرب بك ورحمته إياك، فذهب وكرز في العشرة مدن، وقال كل ما صنع به يسوع فتعجب جميعهم؛ وفي إنجيل لوقا معناه، وفي آخره: فذهب وكان ينادي في المدينة كلها بكل ما صنعه معه يسوع؛ وفي إنجيل متى: فلما خرج يسوع من هناك قدموا إليه أخرس به شيطان، فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس، فتعجب الجميع قائلين: لم يظهر قط هكذا في بني إسرائيل، فقال الفريسيون: إنه باركون الشياطين يخرج الشياطين.
ثم قال: حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس، فأبرأه حتى أن الأخرس تكلم وأبصر، فبهت الجمع كلهم وقالوا: لعل هذا هو ابن داود، فتسمع الفريسيون فقالوا: هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين.
وفيه بعد ذلك: فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان ساجدًا له قائلًا: يا رب! وفي إنجيل لوقا: يا معلم! ارحم ابني، فإنه يعذب في رؤوس الأهلة، ومرارًا كثيرة يريد أن ينطلق في النار، ومرارًا كثيرة في الماء؛ وفي إنجيل مرقس: قد أتيتك يا بني! وبه روح نجس وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر أسنانه فتركه يابسًا، وفي إنجيل لوقا: أضرع إليك أن تنظر إلى ابني، لأنه وحيدي، وروح يأخذه فيصرخ بغتة ويلبطه بجهل، ويزيد عند انفصاله عنه ويرضضه، وضرعت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا؛ وفي إنجيل متى: وقدمته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يبرئوه، أجاب يسوع: أيها الجيل الأعوج الغير مؤمن! إلى متى أكون معكم! وحتى متى أحتملكم! قدمه إلى هنا؛ وفي إنجيل لوقا: وفيما هو جاء به طرحه الشيطان ولبطه؛ وفي إنجيل مرقس: فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته وسقط على الأرض مضطربًا مزبدًا؛ ثم قال لأبيه: من كم أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه، ثم قال ما معناه: افعل معه ما استطعت وتحنن علينا، فقال له يسوع: كل شيء مستطاع للمؤمن، فصاح أبو الصبي وقال: أنا أومن فأعن ضعف إيماني، فلما رأى يسوع تكاثر الجمع انتهر الروح النجس وقال: يا أيها الروح الأصم الغير ناطق! أنا آمرك أن تخرج منه ولا تدخل فيه، فصرخ ولبطه كثيرًا وخرج منه وصار كالميت، وقال كثير: إنه مات، فأمسك يسوع بيده وأقامه فوقف؛ وفي إنجيل متى: فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان وبرئ الفتى في تلك الساعة، حينئذ أتى التلامذة إلى يسوع منفردين وقالوا له: لماذا لم نقدر نحن نخرجه؟ فقال لهم يسوع: من أجل قلة إيمانكم، الحق أقول لكم أن لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل: انتقل من هاهنا إلى هناك، فينتقل ولا يعسر عليكم شيء، وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة؛ وقال مرقس: لا يستطاع أن يخرج بشيء إلا بصلاة وصوم؛ وقال في إنجيل مرقس: إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل، قال: وكان في مجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس فصاح بصوت عظيم قائلًا: ما لنا ولك يا يسوع الناصري! أتيت لتهلكنا! قد عرفنا من أنت يا قدوس الله! فنهره يسوع قائلًا: اسدد فاك واخرج منه! فأقلقته الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج منه؛ وفي إنجيل لوقا: فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه وخاف الجمع مخاطبين بعضهم بعضًا قائلين: ما هو هذا العلم الجديد الذي سلطانه يأمر الأرواح النجسة فتطيعه! وخرج خبره في كل كورة الجليل؛ وفيه: ثم قام من هناك وذهب إلى تخوم صور وصَيْدا ودخل إلى بيت فأراد أن لا يعلم أحد به، فلم يقدر أن يختفي، فلما سمعت امرأة كانت بابنة لها روح نجس جاءت إليه وسجدت قدام قدميه، وكانت يونانية صورية، وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها، فقال لها: دعي البنين حتى يشبعوا أولًا، لا تحسبنّ أن يؤخذ خبز البنين يدفع للكلاب، وأجابت بنعم يا رب! والكلاب أيضًا تأخذ مما يسقط من المائدة من فتات الأطفال، فقال لها من أجل هذه الكلمة: اذهبي قد خرج الشيطان من ابنتك، فذهبت إلى بنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها؛ وفي آخر إنجيل مرقس: إنه أخرج من مريم المجدلانية سبعة شياطين؛ وفي إنجيل لوقا: وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة وقرية ويكرز ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة: مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين ومرثا امراة خوزي خازن هين ودس وسوسنة وأخوات كثيرات؛ وفي إنجيل لوقا: وفيما هو يعلم في أحد المجامع في السبت فإذا امرأة معها روح مزمن منذ ثمان عشرة سنة وكانت منحنية لا تقدر أن تستوي ألبتة، فنظر إليها يسوع وقال: يا امرأة! أنت محلولة من مرضك ووضع يده عليها، فاستقامت للوقت ومجدت الله، فأجاب رئيس الجماعة وهو مغضب وقال للجميع: لكم ستة أيام ينبغي العمل فيها وفيها تأتون وتستشفعون إلا في السبت! فقال: يا مراؤون! واحد منكم يحل ثوره أو حماره من المدود في السبت ويذهب فيسقيه وهذه ابنة إبراهيم كان الشيطان قد ربطها منذ ثمان عشرة سنة! أما كان يحل أن تطلق من هذا الرباط في يوم السبت؟ فلما قال هذا الكلام أخزى كل من كان يقاومه.
وكل الشعب كانوا يفرحون بالأعمال الحسنة التي كانت منه- انتهى.
وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافيًا لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان مع أن فيه دلائل رادة على النصارى في ادعائهم التثليث والاتحاد وأحسن ما ردّ على الإنسان من كلامه وبما يعتقده، وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى في المائدة عند قوله سبحانه وتعالى: {وما من إله إلا الله} ما يلتفت إلى بعض هذا ويشرحه شرحًا جيدًا نافعًا وكذا في جميع ما أنقله من الإنجيل كما ستراه إن شاء الله تعالى في مواضعه، وكل ما فيه من متشابه لم تألفه مما يوهم اتحادًا أو تثليثًا فلا تزدد نفرتك منه وراجع ما سيقرر في آل عمران وغيرها يرجع معك إلى المحكم رجوعًا جليًا، على أن أكثره إذا تؤملت أطرافه وجدته لا شبهة فيه أصلًا، وإن لم تكن أهلًا للجري في مضمار ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: كن ممن يعرف الرجال بالحق ولا تكن ممن يعرف الحق بالرجال، فانظر كتاب الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى تجده أوّل كثيرًا مما ذكرته بمثل تأويلي أو قريب منه، ولم أر كتابه إلا بعد كتابتي لذلك- والله سبحانه وتعالى الموفق. اهـ.